لطالما كانت المكونات الدينية والقومية جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والسياسي لكوردستان العراق، ولعبت دوراً مهماً في النضال من أجل الحرية والاستقلال.
وغالباً ما يُنظر إلى الثورتين الكورديتين، ثورة أيلول (1961-1975)وثورة أيار (1976-1991)، على أنهما ثورتان كورديتان ،حصريتان كورديتان، لكن الحقيقة التاريخية هي أن هاتين الثورتين لم تكونا كورديتين حصرياً، بل شارك فيهما آبناء الاديان والقوميات المختلفة: كالايزيديون والمسيحيون (الآشوريون والكلدان والسوريون) والكاكائيون وغيرهم, وقد شاركت مختلف المكونات الدينية والعرقية في هذه الثورات، ووقفت إلى جانب الكورد ضد القمع والاستبداد من قبل الأنظمة العراقية المتعاقبة.
ستسلط هذه المقالة على ومضات للدور الذي لعبته هذه المكونات في الثورتين الكورديتين، ومساهماتها العسكرية والسياسية والاجتماعية، وتأثير مشاركتها في النضال الكردي على مكانتها في المجتمع الكردي.
أولاً- ثورة أيلول (1961-1975) والمشاركة الواسعة للمكونات الدينية والإثنية:
1- لعب الكورد الأيزيديون الذين يتركزون بشكل رئيسي في مناطق سنجار وشيخان وبعشيقة وبحزاني وسميل وزاخو وتلكيف دوراً مهماً في ثورة أيلول. فقد انضم العديد منهم إلى صفوف البيشمركة وقاتلوا إلى جانب القوات الكردية – من المسلمين-ضد القوات العراقية التي استخدمت القوة المفرطة لسحق الانتفاضة. حيث لعب الإيزيديون البارزون، مثل الامير المرحوم تحسين سعيد بك، دوراً رئيسياً مع القائد الخالد مصطفى بارزاني إبان ثورة أيلول. كما وقد وفرت القبائل والقرى الإيزيدية المأوى والغذاء للبيشمرگه والدعم اللوجستي لهم، خاصة في المناطق المتآخمة مع مناطق نفوذ النظام الصدامي، والتي كانت معاقل استراتيجية لحركة البيشمركة. وواجه الإيزيديون قمعاً مضاعفاً من قبل الحكومة العراقية، كونهم اليزيديون من جهة وكورد من جهة اخرى، حيث تعرضت قراهم لهجمات متكررة وهُجّر العديد منهم قسراً، ومورست ضدهم سياسة التعريب والتبعيث.
2- صراع المسيحيين السياسي والعسكري مع الحركة الكوردية وخاصة الكلدان والآشوريون وغيرهم من المسيحيين في كوردستان، بما في ذلك الثورة الكوردية حيث لم يكونوا بعيدين عنها وشاركوا بفاعلية من خلال الكفاح المسلح والنشاطات السياسية، ويعتبر الشهيد فرنسو حريري خير مثال على ذلك.
كما أن دورهم العسكري، خاصة في مناطق دهوك واربيل والموصل مشهود له. حيث شهد انضمام العديد من المسيحيين إلى صفوف البيشمركة والقتال ببسالة ضد الجيش العراقي.كما وقدمت العشائر المسيحية دعمًا لوجستيًا حيويًا وساعدت في توفير ملاذ آمن للبيشمرگه أثناء القتال. حتى وصل الأمر بتوفير بعض الكنائس كمأواً مؤقتاً للبيشمركة خلال ذروة الصراع.
وأيضاً نشطت النخب السياسية المسيحية في الساحة السياسية الكوردية وساعدت في الترويج للقضية الكوردية على الصعيد الدولي. كما وشارك العديد من القادة المسيحيين في المفاوضات الخارجية وشرحوا المطالب الكوردية بالحكم الذاتي.
وايصاً قد دعم العديد من رجال الدين المسيحيين الثورة الكوردية وقدموا المساعدات الإنسانية للمناطق المتضررة من الضربات الجوية والعمليات العسكرية.
3- الدعم الاستراتيجي والبارز لعبته ابناء الديانة الكاكائية، العمليات العسكرية وأظهروا ولاءً كبيرًا لحركة التحرير الكوردية.
وطالما وكانت مناطقهم، وخاصة في اربيل وكركوك وخانقين، مراكز إمداد مهمة للثورة، حيث وفرت الموارد والملاذات الآمنة للمقاتلين. وقد واجهوا اضطهاداً مزدوجاً من قبل السلطات العراقية على أساس هويتهم الدينية وانتمائهم للحركة الكوردية، وتعرضوا لسياسات قمعية وتهجير قسري. انخرط العديد من الكاكائيين في النشاط السياسي داخل الأحزاب الكوردية وساهموا في صياغة السياسات المتعلقة بمطالب القومية الكردية، أمثال المرحوم فلك الدين كاكه ئي.
ثانياً: ثورة أيار (1976-1991) ودور المكونات العرقية والدينية في المقاومة ضد نظام البعث:
بعد سقوط ثورة أيلول عام 1975، كانت ثورة أيار رد فعل ضد استمرار قمع نظام البعث ضد الكورد، وكان للمكونات العرقية والدينية في المقاومة المسلحة والسياسية المستمرة لعبت دوراً مهماً.
1- دور المسيحيين في النشاط السياسي والمقاومة الشعبية، تعرّضت القرى المسيحية، خاصة في سهل نينوى، لهجمات متكررة بسبب دعمها للقضية الكوردية. لكنهم لم يدخروا جهداً، بل وأبلوا بلاءً حسناً في ساحات القتال، ومن منا لم يسمع ببطولات الشهيد هرمز ملك جكو ورفاقه الأبطال؟.
كما ونشطت الأحزاب المسيحية في الحركة الكوردية، وساهمت في إيصال أصوات الكورد وبقية القوميات والأديان وغيرهم من المكونات إلى الساحة الدولية. ولعب رجال الدين المسيحيين دوراً في تهدئة الأوضاع بين الطوائف المختلفة ودعموا جهود المصالحة بين القوميات المختلفة في كوردستان.
2- كان للإيزيديين دور بارز في ثورة أيار الكوردية، حيث ساهموا في النضال القومي والتحرري. برز الشهيد محمود إيزيدي كقائد ميداني في تنظيمات الحزب الديمقراطي الكوردستاني (PDK)، حيث عمل على تعبئة الكورد الإيزيديين والمسلمين .. وإشعال الفتيلة الأولى للثورة في بهدينان. وبسبب انخراط الايزيديين في هذه الثورة، تعرض ابنائها الى شتى صنوف التعذيب والقتل، وتم تهجير أهالي العشرات من القرى، وإسكانهم في المجمعات القسرية وتوطين العرب الرحالة في قراهم وعلى اراضيهم الزراعية.
3 – على الرغم من القمع العنيف، استمرت المقاومة الكاكائية، حيث تعرضوا لاعتقالات واسعة النطاق بسبب دعمهم للثورة الكوردية. كما قدموا الدعم اللوجستي والعسكري لقوات البيشمركة، خاصة في مناطق كركوك وخانقين، حيث استمر الصراع بين القوات الكردية والنظام البعثي. وواصل العديد من الشخصيات الكاكائية المشاركة في الأنشطة السياسية بعد نهاية الثورة وساهموا في إعادة إعمار كوردستان بعد عام 1991.
اذن، لم تكن الثورتان الكورديتان مجرد حركتين قوميتين كورديتين، بل كانتا جزءاً من نضال أوسع شمل جميع العناصر التي تشكل كوردستان العراق. وكان الأيزيديون والمسيحيون والكاكائيون … جزءاً لا يتجزأ من هذا النضال، حيث ناضلوا وضحوا وواجهوا الاضطهاد وشاركوا في تشكيل مستقبل كوردستان. ويُنظر إليهم اليوم على أنهم جزء لا يتجزأ من هوية كوردستان ولا يزالون يلعبون دوراً في السياسة والمجتمع، ويساهمون في وحدة الإقليم وتنوعه الثقافي والديني. إن الاعتراف بدورهم التاريخي وتكريم تضحياتهم خطوة ضرورية نحو تأمين مستقبل مشترك من العدالة والمساواة في كوردستان العراق.